كثيرا ما بدأ الشاعر الجاهلي قصيدته بالوقوف على الأطلال ، فقد جعلوا هذا الأخير لحنا
يفتتحون به قصائدهم ويطول الوقوف بهذه الأطلال كما يطول التأمل بهذا المكان آثار شاخصة بارزة وتسمى حينئذ بالأطلال ، وقد لا تكون به إلاّ الآثار البارزة ، وتسمّى حينئذ بالرسوم ، تشبيها لها بالرسوم و الكتابة ، و ربما غلب الطلل على الآثار شاخصة وغير شاخصة.
ومن الصور الشائعة في المقدمة الطللية أن يبدأ الشاعر بذكر الديار وقد عفت أو كادت آثارها أن تمحى ، ثم يذكر الديار ويحدد مكانها بذكر ما جاورها من مواضع ، ثمّ ينعتها بعد أن سقطت عليها الأمطار ، ونما عليها العشب فاتخذتها الحيوانات مرتعا تقيم فيه وتتوالد يقول لبيد :
عفّت الديار محلّها فمقامهــا بمنى تأبّد غولـها فرجامـها (1)
فمدافع الرّيان عرّي رسمـها خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها (2)
دمن تجرّم بعد عهد أنيســها حجج خلون حلالها و حرامها (3)
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها ورهامها (4)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) عفت: درست و امحت. محلها فمقامها: أي الأماكن التي كانوا يحلّون بها و يقيمون، و المراد جميع أرجائها. منى و الغول و الرجام: مواضع. تأبد: أصبح موحشالا أنيس فيه.
(2) عري : ارتحل عنه أهله فعري . خلقا: بلي، أي بليت آثار القوم، و أصبحت في مستوى الأرض.الوحي بضمّ الواو: الكتابة.السلام بكسر السين: الحجارة.
(3) الدمن: آثار القوم و آثار الحيوانات . تجرّم : تمّ . خلون : مضين . حلالها وحرامها : أي مضت بأشهر الحل و الحرم ، أي بتمامها .
(4) مرابيع النجوم ، و يروى مرابيع السحاب : أي رزقت أوائل المطر ، وأضاف المرابيع إلى النجوم لأنه يقال: مطرنا بنوء كذا ، و النوء : النجم . الجود : المطر الكثير الذي يرضي القوم . الرهام : المطر الضعيف .
ــــــــــــــــــــــــــ
وقد لا يتوسّع بعض الشعراء كما فعل لبيد من مثل ما نجده عند زهير ابن أبي سلمى ، إذ يحدد ديار محبو بته " أمّ أوفى"في مواضع " حومانة الدّرّاج " و "المتثلم " " الرقمتين " وقد امّحت آثارها ، و بدت بعد انقضاء عشرين سنة و كأنها وشم على معصم ، و اتخذتها الضباء و البقر الوحشي مرتعا تقيم فيه و تتوالد، يقول زهير في مطلع معلقته :
أمن أمّ أوفى دمنة لم تكـلّم بحومانـة الدراج فالمتثلــم (1)
ودار لها بالرقمتين كأنـّها مراجيع وشم في نواشر معصم (2)
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) أمّ أوفى : كنية محبوبته. لم تكلم : لم تتكلم . حومانة الدراج فالمتثلم : موضعان .
(2) الرقمتان : موضع اختلف الشرّاح في تحديده . مراجع وشم: محدد . نواشر : عصب .
ـــــــــــــــــــــــــ
وينتقل كثير من الشعراء بعد الوقوف بأطلال المحبوبة إلى وصف مشهد الرحيل ، وهودج الحبيبة وصواحبها ، وقد يصفون الطريق الذي سلكه القوم و يذكر الأماكن الجديدة التي حلّوا بها ، وتتنوع طرائق التعبير و مشاهد الرحيل بين الشعراء : ويبقى بعدها مشهد الرحيل معلما من المعالم التي تلي المقدمة الطللية وجانبا من جوانب الحديث عن المحبوبة
إن الشعراء الجاهليين أفردوا مقدّمات أكثر قصائدهم لأحاديث الغزل و ما يتصل به : وأنّ المقدّمات الطللية هي أكثر المقدّمات انتشارا وهي مقدمة يقف الشاعر فيها بأطلال محبوبته ناعتا المكان وما آل إليه بعد أن كان عامرا بأهله ، وقد يبكي في هذا المكان على حبّه الضائع ، أو يتذكر موقف لرحيل فيصف الظعن وما يلاقيه من جوى و حرمان ، وقد يبدأ بحديث الفراق مباشرة من مثل مطلع معلقة الحارث ابن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء ربّ ثاو يملّ من الثواء
وقارئ الشعر الجاهلي يمكنه أن يستخلص المثال الأعلى للجمال ، سواء كان جمالا حسّيا أو معنويا يتصل بالسجية والأخلاق ، وعذوبة الروح و حلاوة الحديث ... إنّ الشعراء الجاهليين قد نحتوا للمرأة في أشعارهم تمثالا دقيقا مجلا القسمات ، بدءا بشعرها و انتهاء بقدميها ، و هو تمثال يفيض حيوية ويمتلئ بصفات خلقية وروحية هي الصفات التي أحبّها الجاهلي في المرأة بشكل عام .